
يُحتفل العالم في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للصحة النفسية، وهو مناسبة تسلط الضوء على أهمية العناية بالصحة النفسية كجزء لا يتجزأ من الصحة العامة. في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يواجه الناشطون والناشطات والعاملون والعاملات في المجتمع المدني تحديات جسيمة في سعيهم الدؤوب من أجل تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية.
هؤلاء الأفراد يكرسون حياتهم للدفاع عن الآخرين، ويعملون في بيئات شديدة الصعوبة، مليئة بالضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية. لكن في خضم هذا السعي النبيل والتضحيات الجسام، كثيرًا ما يتم إهمال جانب حيوي وأساسي: صحتهم النفسية وسلامتهم الذهنية.
إن الحديث عن الصحة النفسية للمدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين المدنيين لم يعد ترفًا أو موضوعًا هامشيًا، بل أصبح ضرورة ملحة لضمان استمرارية العمل المدني وفعاليته. فالعناية بالنفس ليست أنانية، بل هي استثمار في قدرتنا على الاستمرار في النضال من أجل قضايانا العادلة.
معاناة العاملين في المجال الإنساني
أظهرت دراسات متعددة أجرتها منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والصحة النفسية، حقائق مقلقة بشأن الحالة النفسية للعاملين والعاملات في مجال تقديم الدعم والرعاية للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان حول العالم. تشير هذه الأبحاث إلى أن العاملين في هذا المجال غالبًا ما يعملون في ظروف ضاغطة للغاية، حيث يواجهون يوميًا حالات إنسانية صعبة ومعقدة. كما أنهم يعيشون مستويات مرتفعة ومستمرة من القلق والإجهاد النفسي والتعب المزمن، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يُعرف بظاهرة “الاحتراق المهني” أو “الإنهاك الوظيفي”.
تصحيح المفاهيم
في ثقافة العمل السائدة في كثير من المجتمعات، وخاصة في قطاع المجتمع المدني والعمل الإنساني، يُنظر إلى العمل المتواصل دون توقف، والتضحية بالراحة والصحة من أجل القضية، كدليل على الالتزام والكفاءة والتفاني. هذا المفهوم الخاطئ يجعل البعض يفخرون بعدد ساعات العمل الطويلة، ويعتبرون الإرهاق والإنهاك وسامًا يعكس مدى جديتهم وإخلاصهم.
وعلى عكس ما يشاع ويُمجَّد في بيئات العمل، فإن الاحتراق المهني ليس دليلاً على الكفاءة أو الالتزام المهني، بل هو إشارة تحذيرية واضحة إلى أن أجسادنا وعقولنا تصرخ طالبة العناية والراحة. إنه مؤشر على أننا تجاوزنا حدودنا الطبيعية، وأن استمرارنا في هذا المسار دون تصحيح سيؤدي إلى عواقب وخيمة على صحتنا وفعاليتنا.
فهم الاحتراق المهني: التعريف والأبعاد
تعرّف منظمة الصحة العالمية (WHO) الاحتراق المهني على أنه “ظاهرة مهنية ناتجة عن ضغوط مزمنة في مكان العمل لم يتم التعامل معها بنجاح.” هذا التعريف الرسمي، الذي تم إدراجه في التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11)، يوضح أن الاحتراق المهني ليس مرضًا بحد ذاته، لكنه ظاهرة مرتبطة بالعمل تؤثر سلبًا على الصحة الجسدية والنفسية.
الأبعاد الثلاثة للاحتراق المهني:
يتميز الاحتراق المهني بثلاثة أبعاد رئيسية، يجب أن تتوفر جميعها أو معظمها للحكم على حالة ما بأنها احتراق مهني:
- الشعور المستمر بالتعب أو استنزاف الطاقة يشعر الشخص بإرهاق جسدي وذهني عميق لا يزول بالنوم أو الراحة القصيرة. هذا الإنهاك يكون مزمنًا ويؤثر على القدرة على أداء المهام اليومية البسيطة، حتى تلك غير المرتبطة بالعمل. الشعور بفقدان الطاقة والحيوية يصبح السمة الغالبة على الحياة اليومية.
- الانفصال العاطفي أو اللامبالاة تجاه العمل يفقد الشخص الشغف والحماس اللذين كانا يدفعانه في البداية. يبدأ في الشعور بالسخرية أو السلبية تجاه عمله، ويتعامل مع المهام والأشخاص بشكل آلي وبارد. هذا البُعد العاطفي عن العمل يمكن أن يمتد أيضًا إلى العلاقات الشخصية والاجتماعية.
- الشعور بانخفاض الكفاءة والإنجاز المهني يبدأ الشخص في التشكيك في قيمة عمله وقدراته الشخصية. يشعر بأنه غير فعال، وأن جهوده لا تحدث فرقًا حقيقيًا. هذا الشعور بالعجز وانعدام الإنجاز يؤدي إلى تدني احترام الذات والثقة بالنفس.
الأسباب الجذرية للاحتراق المهني:
حددت منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة العمل الدولية (ILO) عددًا من العوامل المشتركة التي تساهم في حدوث الاحتراق المهني في مختلف القطاعات:
- عبء العمل المفرط وساعات العمل الطويلة: العمل لساعات تتجاوز القدرة البشرية الطبيعية، وتحمل مسؤوليات أكبر من الطاقة الاستيعابية للفرد، يؤدي حتمًا إلى الإنهاك.
- غياب الدعم المؤسسي والإداري: عدم توفر بيئة عمل داعمة، وغياب التواصل الفعال مع الإدارة، وانعدام الموارد اللازمة لإنجاز المهام، كلها عوامل تزيد الضغط النفسي.
- غموض الأدوار وتضارب التوقعات: عدم وضوح المسؤوليات والمهام، وتلقي توجيهات متناقضة من جهات مختلفة، يخلق حالة من التشوش والقلق المستمر.
- انعدام التقدير أو العدالة في بيئة العمل: الشعور بأن الجهود لا تُقدَّر، أو أن هناك محاباة وظلمًا في التعامل، يقوض الدافعية ويزيد من الشعور بالإحباط.
- الخوف من فقدان العمل وانعدام الأمان الوظيفي: القلق المستمر بشأن استقرار الوظيفة والمستقبل المهني يضيف عبئًا نفسيًا كبيرًا.
أسباب إضافية خاصة بالمدافعين عن حقوق الإنسان والعاملين في المجتمع المدني:
بالإضافة إلى الأسباب العامة، يواجه المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان والعاملون والعاملات في المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عوامل ضغط إضافية تزيد من احتمالية تعرضهم للاحتراق المهني:
- الضغط السياسي: العمل في بيئات مغلقة أو شبه مغلقة، حيث يمكن أن يتعرض الناشط للمساءلة القانونية أو الضغوط السياسية بسبب عمله، يخلق حالة من التوتر الدائم.
- التهديد الأمني والمضايقات الاجتماعية: التعرض للتهديدات المباشرة أو غير المباشرة، والمراقبة، والمضايقات من قبل السلطات أو الجماعات المعارضة، يؤثر بشكل عميق على الشعور بالأمان والاستقرار النفسي.
- الصدمة الثانوية: سماع شهادات العنف والاضطهاد والمعاناة بشكل متكرر من الضحايا والناجين، يمكن أن يؤدي إلى ما يُعرف بالصدمة الثانوية، حيث يعاني المستمع من أعراض مشابهة لأعراض الصدمة الأولية.
- محدودية الموارد والدعم المالي: كثير من المنظمات المدنية في المنطقة تعاني من نقص التمويل، مما يجعل العاملين يحاولون إنجاز مهام كبيرة بموارد محدودة، ما يزيد الضغط والإحباط.
كفى تمجيدًا للإرهاق: معًا لتغيير ثقافة العمل
حان الوقت لأن نتوقف عن تمجيد الإرهاق والإنهاك في بيئات العمل، وخاصة في قطاع المجتمع المدني. العمل المتواصل في ظل الإرهاق الشديد والتجاهل التام للاحتياجات النفسية والجسدية ليس إنجازًا يُحتفى به، بل هو طريق مباشر يؤدي إلى الإنهاك الكامل وفقدان الشغف والقدرة على الاستمرار.
يجب أن نفهم أن الراحة ليست كسلاً، ووضع الحدود الصحية ليس ضعفًا، والرعاية الذاتية والجماعية ليست رفاهية أو أنانية. بل هي جميعًا أدوات ضرورية وأساسية للصمود الطويل الأمد وللاستمرارية في العمل من أجل التغيير الاجتماعي.
عندما نعتني بأنفسنا، نصبح أكثر قدرة على العطاء والإبداع. عندما نحترم حدودنا، نحافظ على طاقتنا للمدى الطويل. عندما نطلب الدعم، نبني مجتمعًا أقوى وأكثر تماسكًا. هذه ليست أفكارًا مثالية بعيدة عن الواقع، بل هي استراتيجيات عملية لبناء حركات مدنية مستدامة وفعالة.
استراتيجيات العناية بالصحة النفسية في مساحات العمل
على المستوى الفردي والجماعي:
- خلق دوائر دعم جماعية ومساحات آمنة: من الضروري إنشاء مجموعات دعم بين الزملاء والزميلات، حيث يمكن للجميع التعبير عن مشاعرهم وتجاربهم بصراحة دون خوف من الحكم أو الوصم. هذه المساحات الآمنة تتيح التفريغ العاطفي والمشاركة الصادقة للتحديات.
- تشجيع اللجوء إلى الدعم النفسي المتخصص: يجب تطبيع طلب المساعدة من معالجين نفسيين أو مستشارين متخصصين. العلاج النفسي ليس علامة على الضعف، بل هو خطوة شجاعة نحو التعافي والنمو الشخصي.
- ممارسة تقنيات الرعاية الذاتية: تخصيص وقت منتظم للأنشطة التي تجدد الطاقة، مثل الرياضة، التأمل، الهوايات، أو قضاء وقت مع الأحباء. هذه الأنشطة ليست ترفًا، بل ضرورة للحفاظ على التوازن النفسي.
- وضع حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية: تعلم قول “لا” عند الحاجة، وتحديد ساعات عمل معقولة، وعدم السماح للعمل بالتسلل إلى كل جوانب الحياة.
على المستوى المؤسساتي:
- تبني سياسات مؤسسية تراعي الصحة النفسية: يجب على المنظمات المدنية وضع سياسات واضحة تشجع على التوازن بين العمل والحياة، وتوفر إجازات كافية، وتحد من ساعات العمل الإضافية.
- توفير برامج دعم نفسي واجتماعي: تخصيص ميزانية وموارد لبرامج الدعم النفسي، سواء من خلال توظيف متخصصين أو التعاقد مع جهات خارجية لتقديم الاستشارات النفسية.
- تدريب القيادات على التعرف على علامات الاحتراق: تأهيل المدراء والقيادات للكشف المبكر عن علامات الإنهاك لدى فرق العمل، والتدخل في الوقت المناسب.
- خلق ثقافة مؤسسية داعمة: تعزيز بيئة عمل تقدر الإنجازات، وتشجع على التعاون، وتعامل الجميع بعدالة واحترام.
على مستوى الممولين والمانحين:
- تخصيص موارد مالية للرعاية النفسية ضمن المنح: يجب على المؤسسات المانحة أن تدرك أن الاستثمار في صحة ورفاهية العاملين في المنظمات المدنية هو استثمار في فعالية واستدامة المشاريع نفسها. لذا، يجب تضمين بنود واضحة في المنح لتغطية تكاليف البرامج النفسية والاستشارية.
- المرونة في متطلبات التقارير: تخفيف العبء الإداري والبيروقراطي المرتبط بالتقارير والمتابعة، مما يتيح للعاملين التركيز على العمل الفعلي.
- تقييم الأثر بشكل واقعي: فهم أن التغيير الاجتماعي يحتاج وقتًا، وعدم الضغط على المنظمات لتحقيق نتائج غير واقعية في فترات قصيرة.
رعاية الأفراد: استثمار في استدامة الفضاء المدني
رعاية الأفراد العاملين ضمن المجتمع المدني ليست رفاهية ثانوية أو أمرًا اختياريًا يمكن تأجيله، بل هي شرط أساسي وضروري لبقاء الفضاء المدني نابضًا بالحياة وقادرًا على الاستمرار في أداء دوره الحيوي، فالمدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان هم العمود الفقري لأي مجتمع يطمح للعدالة والحرية. عندما ننهك هؤلاء الأفراد دون أن نوفر لهم الدعم اللازم، فإننا نضعف الحركة المدنية بأكملها. عندما نفقدهم بسبب الإرهاق والاحتراق، نفقد خبراتهم وشغفهم والتزامهم.
فلنُنهِ اذًا، بشكل جماعي وواعٍ، ثقافة تمجيد الإرهاق والاحتراق في العمل. فلنتوقف عن اعتبار الإنهاك شارة شرف، ونبدأ في رؤيته على حقيقته: مؤشر خطر يتطلب التدخل الفوري. ولنبدأ بتطبيع العناية بالنفس وجعلها جزءًا طبيعيًا ومقبولًا من نضالنا الجماعي. فلنعترف بأننا بشر، لنا حدود وطاقات محدودة، وأن الاعتراف بهذه الحدود واحترامها ليس ضعفًا بل حكمة.
في هذا اليوم العالمي للصحة النفسية، وفي كل يوم، لنتذكر أن الصحة النفسية ليست قضية فردية فحسب، بل هي قضية جماعية ومؤسسية. لنعمل معًا على بناء بيئات عمل أكثر صحة وإنسانية، حيث يمكن للجميع أن يزدهروا ويستمروا في العطاء دون أن يفقدوا أنفسهم في الطريق.
موارد حول الصحة النفسية والاحتراق المهني للمدافعين والعاملين في المجتمع المدني
للتعمّق أكثر في موضوع الصحة النفسية في العمل، وفهم أسباب الاحتراق المهني، ولمعرفة سُبل الحصول على المساعدة أو دعم الزملاء في المجال المدني، قمنا بجمع هذه الموارد الموثوقة من منظمات دولية وإقليمية.
- منظمة الصحة العالمية (WHO) – تعريف الاحتراق المهني.
- منظمة العمل الدولية (ILO) – الصحة النفسية في مكان العمل.
- Open Briefing – الرفاه والصمود للمدافعين عن حقوق الإنسان.
- Center for Victims of Torture – مسارات نحو الصمود.
- FEMENA – دعم وتمكين المدافعات عن حقوق الإنسان.
- أبعاد (ABAAD MENA) – خدمات الدعم النفسي والاجتماعي.
- Front Line Defenders – تقرير حول المدافعين عن حقوق الإنسان.